فصل: مقـدمـة المؤلـف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **


*1*الجـزء الأول

*2* ‏[‏ مقـدمـة المؤلـف‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏[‏ص 2‏]‏ الحمد لله الذي جعل الإنسان هو الجامع الصغير، فطوى فيه ما تضمنه العالم الأكبر الذي هو الجامع الكبير، وشرف من شاء من نوعه في القديم والحديث، بالهداية إلى خدمة علم الحديث‏.‏ وأوتد له من مشكاة السنة لاقتباس أنوارها مصباحاً وضاحاً، ومنحه من مقاليد الأثر مفتاحاً فتاحاً‏.‏ والصلاة والسلام على أهل العالمين منصباً وأنفسهم نفساً وحساً، المبعوث بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، حتى أشرق الوجود برسالته ضياءاً وابتهاجاً ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ثم على من التزم العمل بقضية هديه العظيم المقدار، من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم إلى يوم القرار، الذين تناقلوا الخبر والأخبار، ونوّروا مناهج الأقطار بأنوار المآثر والآثار، صلاة وسلاماً دائمين ما ظهرت بوازغ شموس الأخبار ساطعة من آفاق عبارات من أوتي جوامع الكلم والاختصار‏.‏

‏(‏وبعد‏)‏ فهذا ما اشتدت إليه حاجة المتفهم، بل وكل مدرس ومعلم، من شرح على الجامع الصغير للحافظ الكبير الإمام الجلال الشهير، بنشر جواهره، ويبرز ضمائره، ويفصح عن لغاته، ويفصح القناع عن إشاراته، ويميط عن وجود خرائده اللثام ‏[‏أي‏:‏ ويزيح عن وجوه المتسترات النقابَ‏.‏ ماجد الحموي‏]‏، ويسفر عن جمال حور مقصوراته الخيام، ويبين بدائع ما فيه من سحر الكلام، ويدل على ما حواه من درر مجمعة على أحسن نظام، ويخدمه بفوائد تقر بها العين، وفرائد يقول البحر الزاخر من أين أخذها من أين، وتحقيقات تنزاح بها شبه الضالين وتدقيقات ترتاح لها نفوس المنصفين، وتحرق نيرانها أفئدة الحاسدين لا يعقلها إلا العالمون، ولا يجحدها إلا الظالمون، ولا يغص منها إلا كل مريض الفؤاد، من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فما له من هاد، ومع ذلك فلم آل جهداً في الاختصار والتجافي عن منهج الإكثار، فالمؤلفات تتفاضل بالزهر والثمر، لا بالهذر، وبالملح، لا بالكبر، وبجموم اللطائف، لا بتكثير الصحائف، وبفخامة الأسرار، لا بضخامة الأسفار، وبرقة الحواشي، لا بكثرة الغواشي، ومؤلف الإنسان، على فضله أو نقصه عنوان، وهو بأصغريه اللفظ اللطيف والمعنى الشريف، لا بأكبريه اللفظ الكثير والمعنى الكثيف‏.‏ وهنالك يعرف الفرض من النافلة، وتعرض الإبل فرب مئة لا تجد فيها راحلة‏.‏ ثم إني بعون أرحم الراحمين، لم أدخل بتأليفه في زمرة الناسخين، ولم أسكن بتصنيفه في سوق الغث والسمين، بل أتيت بحمد الله، بشوارد فرائد باشرت اقتناصها، وعجائب غرائب استخرجت من قاموس الفكر وعباب القريحة مغاصها، فمن استلحق بعض أبكاره الحسان، لم ترده عن المطالبة بالبرهان‏.‏ ولم أعرب من ألفاظه إلا ما كان خفياً، فقد قال الصدر القونوي‏:‏ غالب ممن يتكلم على الأحاديث إنما يتكلم عليها من حيث إعرابها والمفهوم من ظاهرها بما لا يخفى على من له أدنى مسكة في العربية وليس في ذلك كبير فضيلة ولا مزيد فائدة، إنما الشأن في معرفة مقصوده صلى الله عليه وسلم وبيان ما تضمنه كلامه من الحكم والأسرار بياناً تعضده أصول الشريعة، وتشهد بصحته العقول السليمة‏.‏ وما سوى ذلك ليس من الشرح في شيء‏.‏ قال ابن السكيت خذ من النحو ما تقيم به الكلام فقط ودع الغوامض‏.‏ ولم أكثر من نقل الأقاويل والاختلافات، لما أن ذلك على الطالب من أعظم الآفات، إذ هو كما قال حجة الإسلام يدهش عقله ويحير ذهنه‏.‏ قال‏:‏ وليحذر من أستاذ عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فإن إضلاله أكثر من إرشاده كيقما كان، ولا يصلح الأعمى لقود العميان‏.‏ ومن كان دأبه ليس إلا إعادة ما ذكره الماضون وجمع ما دوّنه السابقون فهو منحاز عن مراتب التحقيق، معرّج عن ذلك الطريق بل هو كحاطب ليل، وغريق في سيل، إنما الحبر من عوّل على سليقته القويمة، وقريحته السليمة مشيراً إلى ما يستند الكلام ‏[‏ص 3‏]‏ إليه من المعقول والمنقول، رامزاً إلى ذلك رمز المفروغ منه المقرر في العقول‏.‏ قال حجة الإسلام في الإحياء‏:‏ ينبغي أن يكون اعتماد العلماء في العلوم على بصيرتهم وإدراكهم وبصفاء قلوبهم لا على الصحف والكتب ولا على ما سمعوه من غيرهم فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال كان وعاء للعلم لا عالماً اهـ‏.‏ فياأيها الناظر اعمل فيه بشرط الواقف من استيفاء النظر بعين العناية وكمال الدراية، لا يحملك احتقار مؤلفه على التعسف، ولا الحظ النفساني على أن يكون لك عن الحق تخلف، فإن عثرت منه على هفوة أو هفوات، أو صدرت فيه عن كبوة أو كبوات، فما أنا بالمتحاشي عن الخلل ولا بالمعصوم عن الزلل، ولا هو بأول قارورة كسرت، ولا شبهة مدفوعة زبرت، ومن تفرد في سلوك السبيل، لا يأمن من أن يناله أمر وبيل، ومن توحد بالذهاب في الشعاب والقفار، فلا يبعد أن تلقاه الأهوال والأخطار‏.‏ وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك، ومدفوع إلى منهج مع خطر الخطأ مسلوك‏.‏ ولا يسلم من الخطأ إلا من جعل التوفيق دليله في مفترقات السبل، وهم الأنبياء والرسل، على أني علقته باستعجال، في مدة الحمل والفصال، والخواطر كسيرة، وعين الفؤاد غير قريرة، والقرائح قريحة‏.‏ والجوارح جريحة، من جنايات الأيام والأنام، تأديباً من الله عن الركون إلى من سواه، واللياذ بمن لا تؤمن غلسة هواه، فرحم الله امرءاً قهر هواه، وأطاع الإنصاف وقوّاه، ولم يعتمد العنت ولا قصد قصد من إذا رأى حسناً ستره وعيباً أظهره ونشره‏.‏ وليتأمله بعين الإنصاف، لا بعين الحسد والانحراف‏.‏ فمن طلب عيباً وجدّ وجد، ومن افتقد زلل أخيه بعين الرضا والإنصاف فقد فقد، والكمال محال لغير ذي الجلال‏.‏

ولما منّ الله تعالى بإتمام هذا التقريب، وجاء بحمد الله آخذاً من كل مطلب بنصيب، نافذاً في الغرض بسهمه المصيب، كامداً قلوب الحاسدين بمفهومه ومنطوقه، راغماً أنوف المتصلفين لما استوى على سوقه، سميته‏:‏ فيض القدير، بشرح الجامع الصغير‏.‏ ويحسن أن يترجم بمصابيح التنوير، على الجامع الصغير، ويليق أن يدعى‏:‏ بالبدر المنير، في شرح الجامع الصغير، ويناسب أن يترجم‏:‏ بالروض النضير في شرح الجامع الصغير‏.‏ هذا‏:‏ وحيث أقول القاضي فالمراد البيضاوي‏.‏ أو العراقي فجدّنا من قبل الأمهات الحافظ الكبير زين الدين العراقي، أو جدي فقاضي القضاة يحيى المناوي، أو ابن حجر فخاتمة الحفاظ أبو الفضل العسقلاني، رحمهم الله تعالى سبحانه‏.‏ وأنا أحقر الورى خويدم الفقهاء‏:‏ محمد المدعو عبد الرؤوف المناوي، حفه الله بلطف سماوي، وكفاه شر المعادي والمناوي،ونور قبره حين إليه يأوي، وعلى الله الإتكال، وإليه المرجع والمآل، لا ملجأ إلا لإياه، ولا قوة إلا بالله، وها أنا أفيض في المقصود، مستفيضاً من ولي الطول والجود‏:‏

قال المصنف ‏(‏بسم الله‏)‏ أي بكل اسم للذات الأقدس لا بغيره ملتبساً للتبرك أؤلف، فالباء للملابسة كما هو مختار الزمخشري‏.‏ وهو أحسن وأفصح من جعلها للاستعانة الذي هو مقتضى صنيع القاضي ترجيحه، لأن الملابسة أبلغ في التعظيم وأدخل في التأدب، بخلاف جعل اسم الله آلة غير مقصودة لذاتها، ولأنها أدل منها على ملابسة جميع أجزاء الفعل، ولأن التبرك باسمه ظاهر لكل أحد، وتأويل الأولية بأن المراد أن الفعل لا يتم شرعاً ما لم يصدر باسمه لايدرك إلا بدقة النظر، ولأن ابتداء المشركين كان بأسماء آلهتهم للتبرك بها، ولأن كون اسم الله تعالى آلة الفعل ‏[‏ص 4‏]‏ ليس إلا باعتبار أنه يتوسل إليه ببركته فعاد للتبرك، ذكره الشريف وغيره، وتعقب المولى حسن الرومي الأول بأن تلك الجهة غير ملحوظة بل الملحوظ جهة كون الفعل غير معتبر شرعاً ما لم يصدر به‏.‏ كما تقرّر وهو يعارض التبرك بل أرجح، والثاني يمنع الآلية المذكورة فهيهات إثباتها، وبفرضه فباء الاستعانة في جميع أجزاء الفعل فيها الدلالة على تلك الملابسة مع زيادة لا تقاومها الآلية، والثالث بأن العبرة بالخواص فالعوام كالهوام، والدقة من أسباب الترجيح لا الرد، والرابع بأن جعله آلة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل ويشتمل على جعل الموجود لفوات كماله بمنزلة المعدوم وذا يعدّ من المحسنات انتهى، ونوزع بما فيه طول لايسعه المقام‏.‏ وحذف متعلق الباء لئلا يقع في الابتداء غير اسم الله تعالى وهو لابد منه في إظهار المبدئية ليشاكل اللفظ المعنى، ومن ثم التزم حذفه في كلام الحكيم تقدس، أما ما لابد منه لإظهاره كتقديم الباء ولفظ اسم فلا يفوت البداءة بذكر الله تعالى كما بينه الشريف، إذ المطلوب المبدئية على وجه يدل عليها وعلى الاختصاص والباء وسيلة لذلك والابتداء لا يتعين كونه باسم خاص من أسمائه، بل يحصل بأي لفظ دل على اسمه‏.‏

فاستبان أن الابتداء بلفظ الاسم ابتداء بالاسم حقيقة والباء وسيلة لذكره، وأن التبرك يحصل بجميع أسمائه والتعريف الإضافي قد يحمل على معاني التعريف باللام فيراد جنس الأسماء أو جميع أفرادها‏.‏ وقدر متعلق الباء فعلاً لأصالته في العمل، وقلة الإضمار، ومؤخراً ليفيد الحصر والاهتمام‏.‏ وقول أبي حيان‏:‏ تقديم الظرف لا يوجب الاختصاص أطنب المحقق أبو زرعة في ردّه في حاشية الكشاف، ولا يرد ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ لأن الأهم فعل القراءة، لكونها أهم منزل‏.‏ وخامساً، لأنه أنسب بالمقام، وأوفى بتأدية المرام، وأتم فائدة، وأعم عائدة، وتقدير أبتدئ مخل بالغرض من شمول البركة للكل، وقول المولى الخسرولي‏:‏ هو أولى امتثالاً للفظ الخبر، منعه الإمام حسن الرومي بأن مناط الامتثال البدء بالتسمية لا تقدير فعله، إذ لم يقل فيه كل أمر ذي بال لم يقل فيه أو لم يضمر فيه ابتدئ أو افتتح مفوت للمعنى المناسب لفعل الشروع، إذ القصد تلبس جميع أجزاء الفعل بالتبرك، فلما تعذر تحقيقاً، ولا حرج في الدين، جعل طريقه كون الشروع فيه ملتبساً بها، كما في النية حيث اعتبرت في ابتداء العبادات تحقيقاً وفي كلها تقديراً‏.‏ وحذف الألف من بسم الله، لكثرة الاستعمال، وطولت الباء، للدلالة عليه، وإشارة إلى أنها وإن كانت في الأصل حرفاً منخفضاً، لكن لما اتصلت باسم الله، ارتفعت وسمت، ويجعل مناط الحذف كثرة الاستعمال عرف وجه إثباتها عند اتصالها بلفظ آخر نحو‏:‏ لذكر اسم الله حلاوة، أو مضاف إلى اسم آخر نحو‏:‏ باسم ربك‏.‏ والباء للجر فكسرت لتشابه حركتها عملها‏.‏

ثم إن كون المتعلق به مقدماً على الرحمن الرحيم هو ما درج عليه المحققون، لكن قال البلقيني‏:‏ قضية البداءة بالاسم وإفادة الاختصاص التي علي ادعاها الزمخشري كون المقدر مؤخراً عن البسملة بكمالها لئلا يقع الفصل بين الموصوف والصفة بما لم يتعين تقديره في هذا الموضع، والاسم ما يجمع اشتقاقين من السمة أو السمو، وهو بالنظر إلى اللفظ وسم وبالنظر إلى الحظ من الذات سمو، قاله الحراني‏.‏ والله اسم عربي لا سرياني معرّب، وهو علم مختص بمبدع العالم لم يطلق على غيره فيما بين المسلمين وغيرهم ولا عناداً وغلواً في العتوّ مطلقاً، وعلاقة الاشتقاق فيما بينه وبين غيره إنما تنافي علميته لو ثبت أصالة ذلك الغير ولم تثبت، واستظهار القاضي أنه وصف غلب عليه بحيث لم يستعمل في غيره فصار كالعلم لا علماً لأن ذاته غير معقول لنا فلا يمكن الدلالة عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد وهو الله في السماوات معنى صحيحاً تصدى جمع من أرباب الحواشي لدفعه، أما الأول فلأن علم الواضع عند الوضع بكنه حقيقة الموضوع له وملاحظة لشخصه لا ضرورة للزومه بل يكفي ملاحظة انحصار ذلك الوجود في الخارج فيه، بدليل أن الأب يضع علماً لولده قبل رؤيته ولو سلم فلا مانع من كون الواضع هو الله تعالى ثم عرفنا إياه، وأما الثاني فلأن الاسمية لا تقتضي الدلالة على مجرد الذات فإن أسماء الزمان والمكان والآلة مثلاً أسماء باتفاق مع دلالتها على معنى زائد على الذات، ولو سلم فليكن تعلقه به باعتبار ملاحظة المعنى الوضعي الخارج عن الاسم، كذا حققه المولى حسن بعد ما رد على جميع ما لهم هنا من الأقاويل المتعسفة‏.‏ والإله أصله أله فلما دخلت أل حذفت الهمزة تخفيفاً وعوض عنها حرف التعربف، وإنما كانا عوضاً عنها مع أن

‏[‏ص 5‏]‏ دخولهما قبل حذفها لأن دخولهما قبل الحذف لا بطريق اللزوم وبعده يكونان لازمين فيها، فباعتبار اللزوم يكونان عوضاً وهو اسم جنس لكل معبود حق أو باطل، ثم غلب منكراً على المعبود بحق، ثم خص بذاته بعد التعريف، مشتق من أله كعبد وزناً ومعنى، أو من أله بمعنى فزع وسكن، أو من وله أي تحير ودهش أو طرب، أو من لاه احتجب أو ارتفع أو استتار، أو غير‏.‏ والحاصل أن إلهاً بمعنى مألوه أي معبود أو مألوه فيه أي متحير فيه وقس الباقي‏.‏ فمجموع الأقاويل هو المعبود للخواص والعوام، المفروغ إليه في الأمور العظام، المرتفع عن الأوهام، المحتجب عن الأفهام، الظاهر بصفاته العظام، الذي سكنت إلى عبادته الأجسام، وولعت به نفوس الأنام، وطربت إليه قلوب الكرام‏.‏ ثم تفخم لامه إذا انفتح ما قبلها أوصم طريقة مطردة لغة أو مطلقاً وحذف ألفه لحن يبطل الصلاة لانتفاء بعض لفظ الموضوع ولا ينعقد به اليمين مطلقاً لابتنائه على وجود الاسم ولم يوجد، والبلة إنما هي الرطوبة، وما أفهمه كلام القاضي من كونه كناية وجه صحيح محرر ومذهب النووي خلافه‏.‏ ثم أعقب اسم الذات اسمين بصفتي المبالغة في الرحمة رمزاً إلى سبقها وغلبتها على الأضداد وعدم انقطاعها فقال ‏(‏الرحمن الرحيم‏)‏ أي الموصوف بكمال الإحسان بجميع النعم أصولها وفروعها عظائمها ودقائقها، أو بإرادة ذلك فمرجعهما صفة فعل أو صفة ذات، قال في البحر‏:‏ وهو أقرب إلى الحقيقة، إذ الإرادة متقدمة على الفعل وأصلهما واحد لكونهما من الرحمة، والرحمن عربي ونفور العرب منه لتوهمهم التعدد وأتم مبالغة من الرحيم كماً وكيفاً، لأن فعيلاً لمن وجد منه الفعل وفعلان لمن كثر منه وحق الأبلغ التأخير قضاء لحق الترقي لكنه قدم لمناسبة اسم الذات في اختصاصه به إذ لم يطلقا على غيره مطلقاً إلا أن الله اسم وهو قسم من العلم كما تقرر‏.‏ والرحمن وصف أريد به الثناء فأجري مجري الأعلام وليس بعلم حقيقة ومجيئه غير تابع للعلم بحذف موصوفه‏.‏ ووصفه تعالى بالرحمة التي هي العطف من إطلاق السبب على المسبب وهو الإنعام والإحسان إذ الملك إذا عطف رق فأحسن إطلاقه عليه مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية، بل حول بعض المحققين جعله حقيقة شرعية وعرفية لكثرة الإطلاق بدون قرينة، أو قصد تشبيه، وتعقيبه بالرحيم من قبل التتميم، فإنه لما دل على جلائل النعم أولى الرحيم دفعاً لتوهم عدم التعميم وخطور أن الدقائق مما لا يلتفت إليه فلا يتطفل فيها عليه ووفاقاً لترتيب الوجود لإيجاد النعم العامة قبل الخاصة، وكلاهما صفة مشبهة‏.‏ أو الرحيم اسم فاعل فالرحمن عام المعنى خاص اللفظ حيث لم يستعمل في غيره تقدس ولم يوصف به أحد سواه بين جميع الملل والنحل إلا تعنتاً وغلواً في الكفر كرحمن اليمامة والرحيم بالعكس، وآثرهما من بين سائر الصفات لتضمنهما الدلالة على سائر الأسماء الحسنى إذ من عمت رحمته وتمت نعمته انتفت عنه شوائب النقص وطويت النقمة في أفهام اختصاص الثاني، رمزاً إلى أن من شروط كمال حسن الترغيب، الإشارة منه إلى مقام الترهيب، كما هو الاسلوب، في كتب علام الغيوب، ليكون باعث الرجاء والخوف في قرن‏.‏ قال بعض الحكماء‏:‏ والأحسن بيانية إضافة البسملة‏.‏ قال صاحب القاموس‏:‏ وإنما حذفت الألف من لفظ رحمن تخفيفاً ولم تحذف الياء من الرحيم خوفاً من اللبس‏.‏

ولما افتتح كتابه بالبسملة التي الافتتاح بها أجل افتتاح باسم الحق تقدس وهي نوع من الحمد، ناسب أن يردفها باسم الحمد الكلي الجامع لجميع أفراده البالغ أقصى درجات الكمال من القول الدال على أنه سبحانه مالك لجميع المحامد بالاستقلال، فأعقبها به في جملة أوقعها مقول القول فانتصب به تاركاً للعطف لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية في أصل الابتداء فقال ‏(‏الحمد لله‏)‏ أي الوصف بالجميل مملوك أو مستحق لله تعالى فلا فرد منه لغيره بالحقيقة ولم يكتف بالتسمية لما تقرر أن المقام مقام تعظيم فاللائق به التصريح بالحمد وقصره عليه، ولأنها وإن تضمنت جهة الحمد لكن من اقتصر عليها لا يسمى حامداً عرفاً، ومن ثم وقع التدافع ظاهراً بين حديثي الابتداء واحتيج للتوفيق بأن البداءة إما حقيقية وهي ذكر الشيء أولاً على الإطلاق أو إضافية وهي ذكره أولاً بالإضافة إلى شيء دون شيء وهذه صادقة بذكر الحمد قبل المقصود بالذات، وخص الحقيقي بالبسملة، لأنها ذكر الذات والحمد ذكر االوصف فوجب تقديمها بقدر ما تندفع به ضرورة امتناع الجمع في المبدأ كذا قرره جمع‏.‏ وقد انتهبه البعض فعزاه لنفسه بعد ما أتى بترديدات بعيدة واحتمالات

‏[‏ص 6‏]‏ غير سديدة، أو أن المراد في كل رواية الابتداء بأحدهما أو بما يقوم مقامه ولو ذكرا آخر بقرينة تعبيره تارة بالبسملة وأخرى بالحمدلة وطوراً بغيرهما، فاللازم في دفع الاجذمية الابتداء بأحد الأمور لا بها كلها أو بأن رواية البسملة والحمدلة تعارضتا فسقط قيداهما كما في غسلات الكلب ورجع للمعنى الأعم وهو إطلاق الذكر والحمد يطلق على أعم من خصوصه‏.‏ ألا ترى أن غالب الأعمال الشرعية لم يشرع الشارع افتتاحها بالحمد بخصوصه كالصلاة والأذان والحج فدل على أنه ليس المراد إلا إظهار صفة الكمال وهو حاصل في نحو الصلاة بالتكبير وفي الحج بالذكر المطلوب عند الإحرام فلايتوجه ما قيل عموم الأخذ منه مشكل بظاهر الصلاة والأذان‏.‏ هذا محصول ما هنا من الأجوبة المرضية للعظماء، وثم أجوبة شهيرة، وتوجيهات كثيرة، كلها مدخولة وقد بينت ما عليها من نقل ورد في شرح البهجة بما لم يجمعه قبله كتاب

ثم الحمد النعت بالجميل على الجميل أي الفعل الحسن الصادر من المحمود باختياره حقيقة أو حكماً على وجه يشعر بتوجيهه إلى المنعوت للتعظيم ظاهراً وباطناً بأن يقصد به إنشاء التعظيم على وجه التعميم فلابد لتحقق ماهيته في الوجود من أمور خمسة‏:‏ محمود به ومحمود عليه وحامد ومحمود وما يدل على إنصاف المحمود بصفة فالأول صفة تظهر اتصاف شيء بها على وجه مخصوص ويجب كونه صفة كمال يدرك العاقل السليم القابل لدرك الحقائق حسنها ولو بدقة نظر أو تعلم‏.‏ والمراد بالجميل أعم مما في الواقع أو عند الحامد أو المحمود بزعم الحامد فشمل النعت بنحو ظلم ادعى أحدهما حسنه إذ المناط التعظيم وقد وجد ولا فرق بين كون المحمود ثبوتياً أو سليباً كما صرح به الإمام الرازي ولا بين كونه من الكمالات المتعدية كإنعام وتعليم وتسمى فواضل وغيرها كعلم وقدرة وحسن وتسمى فضائل ولا بين كونه صدر عن المحمود باختياره أولاً فالوصف بكمال نحو حسن أو ذات حمد كما قرره النحرير الدواني والعلامة صدر الأفاضل في حواشي التجريد والمطالع وقال المولى حسن الرومي إنه الأشهر وظاهره نقل ذلك عن قدماء القوم وشهرته بينهم وجزم به المحقق خسرو الرومي حيث قال‏:‏ الحمد يقتضي محموداً به أعم من كونه اختياراً أولاً وبه يمتاز عن الأشهر ومحموداً عليه اختيارياً وبه يمتاز عن المدح أعمّ من كونه إنعاماً أو غيره وبه يمتاز عن الشكر انتهى لكن نقل الدواني في شرح التهذيب عن البعض وجوب كون المحمود به اختيارياً ثم اختاره موجهاً بأن الجميل صفة الفعل وهو بالاختيار كما ذكره التفتازاني وأيد بأنه لم يثبت لغة عموم المحمود به اختياراً حتى يصرف ذلك للمحمود عليه فالأصل كون المحمود به اختيارياً مثله وكما لم يسمع الحمد على صباحة الخد ورشاقة القد لم يسمع الحمد بهما فما لا اختيار فيه لا يحمد به ولا عليه وعدم حمد اللؤلؤ كما يمكن كونه من جهة اشتراط أن المحمود عليه يجب كونه اختيارياً فكذا من جهة اشتراط المحمود به فعلاً فجعله دليلاً على أحدهما فقط تحكم والثاني ما يقع الوصف الجميل بإزائه ومقابله بمعنى أن المنعوت لما اتصف به ذكر جميله وأظهر كماله فهو لأجل حصوله له ولولاه لم يتحقق ذلك الوصف فهو كالعلة الباعثة للواصف على الوصف أو هو علته وقد يكون الشيء الواحد محموداً به وعليه معاً كأن رأى من ينعم أو يصلي فأظهر اتصافه بذلك فتلك الصفة من حيث بعثها على إظهار اتصافه بها محمود عليها ومن حيث اتصافه وإظهار كونها من صفاته محمود بها ويجب في المحمود عليه كمالاً فغيره لا يصلح سبباً لإظهار الكمال والمراد أعم مما في ظن الحامد أو المحمود على قياس ما سبق في المحمود به وظاهر كلام الجمهور أن المحمود عليه أعم من كونه فعلاً صادراً من المحمود أو كيفية قائمة به لكن في شرح الكشاف للسعد تبعاً للرازي أن المراد فعل جميل فلا يكفي أن يكون للمحمود دخل في صدوره عن غيره لا على وجه الفاعلية لانتفاء الفعل المشترط إذ التعظيم حينئذ من حيث تعلق الصفة به لا من حيث كونه فعلاً فمعنى قول الشريف يختص الحمد بالفاعل المختار أنه فاعل للمحمود عليه ثم المشهور بين الجمهور أن المحمود عليه يشترط حصوله من المحمود باختياره حقيقة أو حكماً فالثناء على صفاء اللؤلؤ ورشاقة القد وصباحة الخد مدح لا حمد ولا يشكل بقوله سبحانه ‏{‏عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏ لأنه من وصف الشيء بوصف صاحبه أو أن الحمد فيه مجاز عن المدح، ولا بقول الشاعر‏:‏

أرى الصبر محموداً عواقبه* وقوله‏:‏ والصبر يحمد في المواطن كلها*

لأنه كما قال خسرو بمعنى الرضا لمجيئه في اللغة لذلك أيضاً وبتعميم الاختيار وقع الإشكال بثنائه سبحانه على صفاته الذاتية لأنها غير مسبوقة بالاختيار وإلا لزم حدوثها كما قرر في محله وما ذاك إلا لأن الذات لما كانت مستقلة في تحققها ‏[‏ص 7‏]‏ من غير مدخلية شيء من الأغيار بمعنى إذا شاء ترك نزل منزلة الاختياري لتكون في حكمه أو أنها لما ترتبت عليها أمور اختيارية جعلت في حكمه فالمراد ماكان اختيارياً نفسه أو أثره وها هنا تنبيه وهو أن ما تقرر من اشتراط الاختيار إنما هو بالنظر إلى الحقيقة أما المجاز فلا كما يصرح به كلام الزمخشري حيث قال‏:‏ ومن المجاز حمدت الأرض رضيت سكناها والرعاة يتحامدون الكلأ وجاورته فما حمدت جواره وأفعاله حميدة وهذا طعام ليست عنده محمدة أي لا يحمده آكله والثالث وهو من يتحقق منه الحمد وشرطه أن يكون معظماً بذاته للمحمود في سائر أقواله وجميع أفعاله ظاهراً وباطناً بأن يقصد به إظهار التعظيم على جهة التعميم فلو اقترن بما دّل عليه الوصف بالكمال من التعظيم والعظمة من جميع الوجوه إلا جهة واحدة فاقترن منها بتحقير أو استهزاء أو تهكم كما لو صدر بفعل أكبر الجوارح مع مخالفته جارحة واحدة لم يكن حمداً لأن التعظيم الظاهري والباطني إنما يتحقق تفاوتهما باعتبار قيد زائد هو اعتبار العموم في الأفراد وإذا كان بعض أفراده صارفاً عن التعظيم كذا حققه صدر الأفاضل وأيد بأن التعظيم والتحقير من شخص واحد في آن واحد لا يجتمعان فإن فرض اجتماعهما لم يتبادر منه إلا التحقير فكأنه نص في التحقير فحمل المحتمل عليه والتحقير في القبيح والذم أتم وأشد من التعظيم في الحسن والكمال، ألا ترى أن أدنى ما يوهم الاستهزاء أو التهكم يوجب الذم والعقوبة وقل ما يترتب على صريح التعظيم ما يناسبه إذا قلّ لكن لا يلزم اعتقاد اتصاف المحمود بالجميل المذكور عند المحققين بل الشرط عدم اقترانه يشوب تحقير فدخل الوصف بما قطع بانتفائه كما مر‏.‏ قال الدواني‏:‏ ولا يناقضه توجيه الشريف لاشتراط التعظيمين بأنه إذا عرى عن مطابقة الاعتقاد لم يكن حمداً بل سخرية لأنه أراد بالاعتقاد لازمه وهو إنشاء التعظيم لا معناه الحقيقي فإن الحمد قد يكون إنشائياً ولا معنى لمطابقة الاعتقاد فيه لأن ما لا يتعلق به الاعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقة الاعتقاد إذ المتبادر من مطابقة الاعتقاد الاتحاد في الإيجاب والسلب أو ما يستلزمه أو يؤول إليه وهذا لا يوجد إلا في القضايا ولذلك لا تسمع من أحد من أهل الاصطلاح أن التصوير يطابق الاعتقاد بل لو قال أحد إن تصور مفهوم نحو اضرب يطابق الاعتقاد نسبه أهل العرف الخاص لما يكره وحمل المطابقة على هذا المعنى أقرب من التزام اتصاف التصورات بالمطابقة وإلا مطابقة إذ ليس في هذا المعنى إلا ذكر الملزوم وإرادة اللازم مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الاعتقاد بهذا المعنى يقال فلان له اعتقاد في فلان ويراد مثل ذلك ولا بعد فيه لأنهم يعدون الوصف بالجميل المعلوم الانتفاء إذا كان كذلك مدحاً وحمداً كالقصائد المشتملة على وصف الممدوح بما هو محقق الانتفاء إلى هنا كلام الدواني‏.‏ قال‏:‏ وأما الجواب بأن الواصف يعتقد اتصاف الممدوح بما ذكر وأنهم أرادوا معاني مجازية واعتقدوا اتصاف المنعوت بها فيردّه أن الأول خلاف البديهة والثاني خلاف الواقع اهـ‏.‏ واعترضه صدر الأفاضل بأن الأول لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ولم يكن اللفظ مستعملاً في معناه الحقيقي والثاني لو كان خلاف الواقع لما كان الكلام مستعملاً في معناه المجازي فيلزم أن لا يكون الكلام المذكور حقيقة ولا مجازاً انتهى‏.‏ وأجابه الدواني بما نصه‏:‏ هذا السيد الفاضل لم يتذكر أنه لا يلزم من عدم اعتقاد مدلول الكلام أن لا يكون الكلام مستعملاً فيه فإن الأخبار التي مضمونها خلاف اعتقاد المتكلم كقول السني المخفي عن حاله عن المعتزلي‏:‏ العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية مستعملاً في معناه الحقيقي مع أنه لا يعتقده بل جميع الأكاذيب التي يتعمدها أهلها كذلك‏.‏ ثم إنه حمل قوله والأول خلاف البديهة على أن مضمون تلك الأخبار خلاف البديهة وفرع عليه أنه يلزم أن لا يقصد العقلاء إفادته ويرد عليه منع الملازمة فإن الأكاذيب التي يعتمدها المتكلم العاقل قد تخالف البديهة مع قصد المتكلم إفادتها لغرض من الأغراض كتغليط المخاطب أو تبكيته أو امتحانه أو للتخييل فلا يلزم أن لا يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازاً كما توهمه والأخبار قد يقصد بها إفادة التصديق بمضمونها إما جزماً أو ظناً وقد يقصد بها إفادة التخييل كما في القضايا الشعرية انتهى‏.‏ الرابع المحمود وقد سبق اشتراط كونه فاعلاً مختاراً أو في حكمه، ثم إن المحققين التفتازاني والجرجاني والمفسرين الأفضلين الزمخشري والقاضي صرحوا في عدة مواضع بأن الحد مختص به تعالى منحصر فيه وعليه إشكال قضوا له بالصعوبة لأن أفعال العباد كما ترجع إلى الله من

‏[‏ص 8‏]‏ جهة الخلق والاقتدار وتهيئة الأسباب والتوفيق ترجع إلى العبد من جهة المباشرة بعد الإرادة وهذه الجهة وإن رجعت إلى الله لأنه المحصل للأسباب الدافع للمواقع ترجع للعبد قطعاً لخلق الجميل فيه وتمكنه من مباشرته فيحمد باعتبارها فرجوعه إلى الله لا يقتضي الحصر، والناس فيه فريقان فريق تجرأوا على أولئك المحققين وحكموا على كلامهم بالتوهين ومنهم المولى ابن الكمال فرماهم بالوهم في هذا المجال حيث قال‏:‏ لا اختصاص بالحمد بالله كما يفصح عنه قول عائشة رضي الله تعالى عنها نحمد الله لا نحمدك وقول علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ *لاتحمدن امرءاً حتى تجربه* بل اختصاصه بذي علم وشعور كما يرشد إليه قولهم في المثل السائر‏:‏ عند الصباح يحمد القوم السري‏.‏ قال‏:‏ ومن هنا تبين أن المحمود عليه لا يلزم كونه فعلاً لمن حمد به فضلاً عن كونه مختاراً فيه كما توهم وأن من وهم قيام الفرق بين الحمد والمدح لصحة تعلق الثاني بالجماد دون الأول فقد وهم واتضح به أنه لا مدخل لمسألة خلق العباد لأفعالهم هنا لأن الكلام في الحمد اللغوي ومرجعه إلى من وثق بعربيتهم بالنقل الصحيح والاستعمال الصريح وقد صح عنهم عدم الاختصاص، وأما حمل التعريف على الجنس دون الاستغراق فمنشؤه أمر وراء ذلك وهو أن مقتضى مقام الخطاب تخصيص حقيقة الحمد به تعالى تنزيلاً لأفراد الحمد الثابتة لغيره منزلة العدم والقصد إلى هذا المعنى ظاهر عند كون التعريف للجنس لا للاستغراق إذ قد يكون جزئياً كجمع الأمير الصاغة فلا يوجب استيعاب جميع الأفراد‏.‏ إلى هنا كلامه‏.‏ وفريق سلكوا سبيل الأدب مع أولئك العظماء وسيد هذا الفريق سيد المحققين الدواني فنزل الحصر على الحقيقة لأن الحمد يختص بالفعل الاختياري ولا اختيار لغيره تقدس على قاعدة أهل الحق والعبد مضطر في صورة مختار انتهى‏.‏ والحاصل أنهم نزلوا حمد غير الله منزلة العدم أو منزلة حمده الله تعالى لأنه مبدأ كل جميل فحمد غيره كالعارية لأن الكل منه وإليه خلقاً وتمكيناً وتيسيراً وليس لغيره غير مجرد مظهرية لما بين يديه وكل جمال وكمال مضمحل في جماله وكماله وراجع إليه وكل اختيار لغيره يعود إلى اضطرار‏.‏ الخامس وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية وقد اشتهر تقييده باللسان والمراد منه أن يكون مجارحة النطق فلما كان الواقع كون آلة التكلم هي تلك الجارحة خص بها فلو فقد لسان إنسان فأثنى بحروفه الشفوية على جميل أو خلق النطق في بعض جوارحه كما ذكر بعض الثقات أنه شاهده فأثنى به فهو حمد وقضية التقييد به أيضاً أن لا يكون الصادر عن المنزه عن الجارحة حمداً وقد قال تعالى ‏{‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده‏}‏ فذهب الأكثر إلى أنه إخبار باستحقاق الحمد أو أمر بالحمد أو منقول على ألسنة العباد أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية المطلوبة من الحمد وميل السيد إلى الأخير لكن النحرير الدواني قال‏:‏ كون الحمد في حقه سبحانه مجازاً بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة والقول مساوق للكلام قال‏:‏ فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي في مقابلة الجنان والأركان والمراد الفعل الذي مصدره اللسان غالباً أو هو قيد أغلى يسوغ الاستعمال فيه‏.‏ وتوضيحه أن اللفظ قد يكون موضوعاً في أصل اللغة لأمر عام اشتهر في بعض أفراده بخصوصه بحيث يصير حقيقة عرفية في ذلك الفرد، وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك اللفظ كما في لفظ الدابة فإنه موضوع في الأصل لما يدب على الأرض ثم اشتهر به في العرف العام في بعض أفراده حتى صار حقيقة عرفية فيه، وإما عدم الاطلاع على فرد آخر فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر ذلك ولم يطلعوا على إطلاقه على فرد آخر ظنوا أنه موضوع لخصوصه كما في الميزان فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن ثم من لم يطلع على تلك الآلة إلا على ما له لسان وعمود ربما يجزم بأنه موضوع لهذا حتى أن من لم ير موازين المياه وغيرها من موازين الحكمة ربما يظن أنها ليست ميزاناً وكما أن من لم يشاهد من الخبز إلا ما هو من الحنطة لا ينساق ذهنه عند سماع لفظ الخبز إلا إليه وربما لم يصدق بأن غير من أفراد الخبز حقيقة ومثل ذلك يجري في كثير من الألفاظ ثم الأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق أما في غيره فربما يشتبه على الجماهير وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة إذا تمهد ذلك فقس عليه الحمد فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراداً وأشهرها عند العامة شاع استعمال لفظ الحمد فيه حتى صار كأنه حقيقة فيه مجاز في غيره مع أنه بحسب

‏[‏ص 9‏]‏ أصل الواقع أعم بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم فهو بهذا الاسم أليق وأولى كما هو شأن القول بالتشكيك انتهى‏.‏ وشمل التعريف حمد الملائكة لنطق النصوص بنطقهم باللسان وتشكلهم كالإنسان وأخرج حمد الطير والبهيمة والنائم لفقد القصد المعتبر‏.‏ ثم إنه قد عرف بما قد سلف أن الحمد لله وأحمد الله حمد لدلالته على الاتصاف بالكمال وبه جزم الشريف وأورد الدواني أنا لا نسلم دلالة نصفك على الانصاف لصدقه مع كذب الاتصاف فلا يكون وصفاً بالجميل بخلاف أنت نتصف ثم أجاب بأن التعظيم الباطني المشترك يدل على اعتقاد كمال ما بدأ به وهو يدل عرفاً على معنى أنت متصف إذ الإنسان لا يكذب نفسه وبأن العبارة تطلق عرفاً بمعنى أنت متصف وبأن نحمد دال على صدور القول والقول دال على الإتصاف فهو دال على الانصاف انتهى‏.‏

قال الصفوي‏:‏ وما ذكره من أن الشخص لا يكذب نفسه إنما يجيء في نحو حمدت وأحمد لا أنت محمود أو لك الحمد ونحوه مما لم يتضمن دعوى اعتقاد المتكلم‏.‏ ثم إن الإشكال من أصله إنما يتجه إذا لم يلاحظ معنى اللامين فإن لوحظ اختصاص الجنس أو الأفراد أو الفرد الكامل أو الأكمل فدلالته على الكمال التام في كمال التمام‏.‏ وقد أتينا على بيان أركان الحمد الخمسة على جهة الاقتصار والاختصار ولم يبق إلا التتميم بإيراد ما اشتهر من أن الجملة خبرية أو إنشائية وجوزهما الشريف فقال‏:‏ إخبار كما هو أصله إو إنشاء وذلك لأن الخبر بثبوت الحمد يستلزم الوصف بالجميل فإذا تحقق باقي الأركان فهو حمد وكلامه مشير إلى ترجيح مطلق الخبرية بالأصالة وجرى عليه جمع منهم المولى حسن الرومي حيث قال ما محصوله‏:‏ وإنما ترجح الإخبار بالأصالة مع أن قصد القائل إحداث الحمد لأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله هو عين الحمد كما أن قولك الله واحد عين التوحيد انتهى‏.‏ وقد ألف العلامة البخاري في الانتصار لكونها خبرية مطلقاً مؤلفاً حافلاً‏.‏ ووهم من زعم أنها إنشائية فقال‏:‏ الحق الذي لا محيد عنه أنها خبرية مطلقاً وما يسبق إلى بعض الأوهام من أنها إنشائية فعلى نقيض ما تقتضيه صناعة العربية وخلاف ما عليه أساطين الفنون الأدبية واستظهر على ذلك بأمور يطول ذكرها‏.‏ ورده الكمال ابن الهمام فقال‏:‏ بالغ بعضهم في انكار كون الحمد لله إنشاء لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود، قال‏:‏ ويبطل من قضيتين إحداهما أن الحمد ثابت قطعاً قبل الحامد والأخرى أنه لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعاً فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم فلو كان الحمد إخباراً محضاً لم يكن القائل الحمد لله حامداً فهما باطلان فبطل ملزومهما واللازم من المقارنة أي مقارنة معنى الإنشاء لفظه انتفاء وصف الواصف المعين لا الاتصاف وهذا لأن الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها‏.‏ نعم يتراءى لزوم كون كل مخبر منشئاً حيث كان واصفاً للواقع ومظهراً له وهو توهم فإن الحامد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فاختلفت الحقيقتان إلى هنا كلامه‏.‏